•·.·°.·• منتديات التميز •·.·°.·•
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

أربعة عقود من تحييد الذاكرة

اذهب الى الأسفل

أربعة عقود من تحييد الذاكرة Empty أربعة عقود من تحييد الذاكرة

مُساهمة من طرف mouad 19/6/2008, 08:52

الذاكرة الجماعية للمجتمع كالدورة الدموية للجسد، دوران أحداثها في الذهن الجماعي كدوران الدم في خلايا الجسد التي إن لم يصلها بحمولته من الأوكسجين والغذاء ماتت الخلايا ، ومثلما أن للدورة الدموية طرق إنعاش فللذاكرة كذلك، تقتطع الأمم لها قسماً مهماً من مواردها لتبقيها غضة طرية ، بل إن من الشعوب من يعيش على ذاكرة جماعية وهمية ينسجها المختصون لتمتلك أسباب البقاء .

الذاكرة الجماعية هي الصفات الوراثية للمجتمع التي تحكم طباعه وسلوكه فلا يخرج عن السلالة الفكرية والاجتماعية التي ينحدر منها، وهي جهاز المناعة.

أصاب الذهول مراسلي الفضائيات العربية وهم يستمعون إلى رجل الشارع العربي عما يعنيه له تاريخ 5 حزيران 1967، فبين قائل: لا علم لي بالتاريخ، وآخر: أول مرة يمر علي. ..

وجواباً على سؤال: ماذا تعرف عن حرب وقعت بين إسرائيل وثلاثة دول عربية ضاعت فيها القدس وسيناء والجولان؟ قال مواطن عربي: والله "خوي" (أخي) بصراحة لم أسمع بهذه الحرب، المراسل: لم تسمع إطلاقاً؟ المواطن العربي: إطلاقاً لم أسمع، وقال ثالث: أنا من مواليد 1961 سمعت عن الحرب لكني بصراحة لا أعلم عنها الكثير.

حاول المراسل إعطاء المشاركين محفزات فكرية علها تستخرج معلومة ذات علاقة منحشرة في زاوية من زوايا الذهن ولكن دون جدوى.

ما هذا الإنجاز الثقافي والفكري العظيم؟ كيف نشأ هذا الجيل؟ ماذا تعلم في المدارس ، وماذا سمع من الإعلام؟ أمِن القسوة التساؤل: هل فعل أحد بنفسه (وعلى نفقته الخاصة) ما فعلته هذه الدول بنفسها في ظرف ربع قرن من الزمن؟ بل هل فعله عدو بعدوه؟ وما تلك الرؤى التي يتحدث عنها القوم ويصدرونها في كتب أنيقة تصادفك أينما ذهبت؟! أتطاول بالبنيان وتقزيم لقامة الإنسان؟ !!.

كان للذكرى حضور باهت عند البعض لكنه ضمن ما كان يطلق عليه القاموس القديم "دول الطوق"، أبقاه التماس المباشر مع الحدث، فهذا فاقد أباه وذاك أخاه وثالث هدمت الحرب داره.

الالتصاق الذهني بذكرى الحدث انحصر في بؤرة الحدث ، تحديداً الفلسطينيين، الذين لازالوا يولدون ويموتون عند الحواجز الإسرائيلية يرضعون القضية مع لبان الأم ، وتختلط بفعالياتهم الشعبية من شعر وغناء ، الطفل الفلسطيني وحده يفهم حقيقة الصراع ، ولم تدخل إلى معجمه مفردات الإعلام ، وجوابه حين يسأل: اليهود أخذوا أرضنا وقتلوا أبي وهدموا دارنا.

للمراسل العربي الشاب حق الإصابة بالذهول، ولكن ربما فاته أن مؤسسته التي ابتعثته لمقابلة الشارع العربي، أو تلك التي سبق له العمل فيها، أو التي سينتقل إليها مع سنوح أول فرصة وظيفية أفضل هم شركاء في صنع مناخ ثقافي توقف فيه إحساس الشاب بجريان الأحداث من حوله.

انطباعتنا نحن تفاوتت؛ بعضنا بكى لمشهد الناس وهم يروون مأساتهم، والبعض الآخر صدمه جهل النشأ الجديد بقضاياه وانفصامه عنها، وصنف ثالث تمنى أن لا تعود إليه الذكريات...

أما عدونا فانطباعاته مختلفة، وليس لها علاقة بالعواطف ، المقابلات بالنسبة له هي مسح ميداني وبيانات لقاعدة معلومات عن مفعول جرعة أربعة عقود من نمط ثقافي على سلوك مجتمع، وبوصلة للنقلات الثقافية القادمة مع هذا المجتمع ولحجم جرع "السلام" معه.

هل نمطية الإعلام العربي وأجواؤه الثقافية مصادفة؟ إسرائيل، الطرف المنتصر في الحرب، تجري مراجعات في ذكراها الأربعين، وتدرس الانعكسات السلبية للنصر العسكري على الجوانب السكانية والأمنية لمجتمعها اليوم ، الحدث لا زال نابضاً ومتجدداً في الذهن الجماعي الصهيوني ، وقد صدر في تل أبيب كتب جديدة أفردت لها الصحافة العبرية مساحات واسعة.

كان رد الوطن العربي بملايينه الـ 300 على الأعمال الفكرية الإسرائيلية الجديدة هو قيام دار نشر في دمشق بإعادة طباعة كتاب كان قد نشر غداة النكسة، وبمقدمة جديدة أكدت على التمسك بالمدرسة الآيديولوجية التي خاض بها العرب الحرب، وخلصت إلى القول: إن تأسلم الشارع العربي، وإيمانه بالإسلام السياسي المنظم في كل من فلسطين والعراق ولبنان ساهم بشكل أساسي بتداعي الحياة السياسية والاجتماعية ، وبقتل آخر حفنة أمل بالتغيير الديموقراطي والإصلاح.

الأعمال الفكرية العربية التي لم تصدر بوازع استراتيجي، لم تصدر بوازع انتهازي أيضاً، كما هو الحال في كثير من الأحيان، رغم القيمة التجارية المتوقعة، فالمواطن العربي الذي غير الحدث مسار حياته وحياة أبنائه وأحفاده، والذي طلق القراءة منذ أمد بعيد، لازال تواقاً لقراءة صادقة عن أسباب شقائه قبل مغادرته هذه الحياة.

هذا عن الإعلام المقروء ، أما الإعلام المرئي، فلو أننا سلّمنا بأن الفضائيات العربية وأطقمها الشابة هي مؤسسات صحفية بالأصل يغيب عنها ـ أو يكاد ـ البعد الفكري، وأن ما قامت به هو أفضل ما يسمح به تكوينها المهني، فليس هذا عذراً لتدني المهنية والجدية في تغطية الحدث، فانكشاف المستور الذي زكم الأنوف لم يستفزها لإطلاق مشروع ثقافي إنقاذي أو نحوه تكون هي الرابح الأكبر فيه في كسر نمطية مضطردة مملة باتت سمة لبرامجها.

الهبّة الإعلامية المرئية كانت أقرب إلى "حكايات جدتي" منها إلى مسح علمي ميداني يليه عودة فورية بالبيانات الطازجة إلى مختبرات التحليل، يليه عرض أولي للنتائج تليه عروض أخرى، واتخذت شكل وقفات بعضها بطول الإعلانات التجارية، ما لبثت أن اختفت فاسحة الطريق للبرامج العادية ولإغفاءة أخرى، وحتى يحين موعد الذكرى 50 للنكسة نترككم في رعاية الله.

ليس تدني المهنية والجدية وحدها فقط، فإطلاق الإعلام العربي لسراح الأفلام الوثائقية الأجنبية المنتَجة في مطلع القرن الماضي التي تتحدث عن حيثيات قيام النظام السياسي العربي المعاصر ومقدمات ضياع فلسطين، يذكّر بأجهزة التعويق الزمني المستخدمة في المقابلات الإذاعية التي تبث على الهواء مباشرة، والتي تمنح المخرج آلية تعويق البث لعشرة ثوانٍ يقتطع خلالها ما لا يرى وصوله مناسباً إلى المستمع.

الأفلام حملت قدراً من الأمانة العلمية عن دور الإنكليز وجواسيسهم في قيام الدول والممالك العربية، وعن صفقات الهجرة اليهودية، أما بواطن نكسة 1967، بل قُل نكسة احتلال العراق وحكوماته العميلة فيطبق عليها صمت القبور.

المفارقة الكبيرة تشعر بأن ذاكرتنا الجماعية تخضع لتعويق زمني قدره 80 عاماً على الأقل، ولا تشحن إلا بما انتهت صلاحيته الميدانية، وبالتالي فهي منكبة أبداً على ما قد فات أوانه، لا تواكب الحدث فضلاً عن أن تستشرفه.

بدلاً من أن يقوم الإعلام العربي الرسمي والتجاري بإنعاش الذاكرة الجماعية للأمة وإعادة ترتيبها في حقبة مفصلية من تاريخها، راح يعيد كتابة القاموس السياسي والثقافي، فالشهيد قتيل والمقاوم مسلح، واستعادة الأرض لا تحريرها، والشرق الأوسط بدلاً عن المنطقة العربية، وغيرها الكثير من عناوين ودلالات يستعصي جريانها في أوعية الذهن العربي والمسلم...

ما حدث هو تصلب شرايين منعَ دوران المفاهيم في الذهن الجماعي للمجتمع ؛ فماتت أجزاء منه لم يصلها الإمداد الفكري وفقدت القدرة على الإحساس، مثلما يحدث لنهايات أطراف جسم الإنسان التي يزداد فيها الجلد سماكة فتنسد أوعيتها ، ويتوقف مرور الدم فيها ، وتموت وتفقد حاسة المس ، ولا يعود لجرح فيها إيلام.

المؤسسات الإعلامية والتربوية التي حذفت مغازي الرسول صلى الله عليه سلم مع اليهود من مناهج التعليم ، وقطعت إمداد الذاكرة الجماعية بمفاهيم تقع على مسافة زمنية قدرها 14 قرن، من باب أولى أن تحذف مغازينا مع الصهاينة والأمريكان التي تبعد ثلاثة أو أربعة عقود، وطمس بصمات وآثار أقدام الجاني في الذاكرة الجماعية ، وكل ما يرشد إلى الجريمة وهوية الفاعل، وقد كان.

لم يعد 5 حزيران 1967 حديث منابر جمعة، ولا كلمات لأغنية وطنية أو فعالية شعبية، لم يعد له أثر في فقه أو أدب أو فن كما كانت القدس وقناة السويس والجزائر وبيروت في الخمسينيات، إنه شأن فلسطيني محض، بل هو شأن أهل الضفة الغربية وغزة الذين لفحهم وهج ناره...

لا ينبغي أن ننسى في هذا السياق أن 5 حزيران بأهواله ومآسيه ليس سوى جزء من الذاكرة الجماعية الأوسع، فقبله كانت ثورة الجزائر جزءاً من الذاكرة المصرية، وكانت جنين جزءاً من الذاكرة العراقية، وعمر المختار جزءاً من الذاكرة السورية، وقبل ذلك كله كان صمود العثمانيين في وجه روسيا القيصرية في البلقان وصمودهم في وجه الصفويين جزءاً من الذاكرة العربية.

هكذا، كلما انحسرت الجغرافيا انحسرت معها الذاكرة حتى تصبح جدولاً صغيراً في بطن وادٍ عريض ، يرى الواقف على ضفته حدود مجراه القديم الواسع، والتدرجات التي أحدثها عند كل تقهقر.

ستستمر عملية الانحسار، وستنحسر أهوال سقوط العراق وعاصمة الرشيد عن الذاكرة الجماعية (مع إن سقوطها الأول لازال صامداً) ولأحدنا أن يسأل نفسه: متى كانت المرة الأخيرة التي سمع فيها عن ضحايا اليورانيوم المنضب الذي سكبته أمريكا فوق العراق؟ وعن هلاك الزرع والضرع ، وعن التلوث الأبدي للتربة والمياه؟ لقد أقفل الملف، بل أتلف، صمتت عنه الفضائيات العربية والسرطانات لا تزال تحصد الأحياء وتشوه الأجنة في الأرحام.

هل من عجب أن يجيب شاب عربي على تساؤلٍ في الذكرى الأربعين لاحتلال العراق: لم أسمع بالاحتلال، ولا بمليون عراقي قتلهتم إشعاعات اليورانيوم؟ لن يجيب على هذا السؤال حينها سوى العراقي ، فالشأن شأنه هو فقط، هو ـ كالفلسطيني ـ الذي تستعصي على معجمه مفردات الإعلام ، ويسمي الأشياء بمسمياتها؛ فلا قوات متعددة الجنسيات ولا تدخلات لدول الجوار، وإنما عودة للمجوس تحت رماح احتلال أمريكي صهيو – مسيحي ، لقد أخبره الجد والجدة أن إيران لم ولن يأتي من صوبها الخير، حتى الريح المحملة بالأتربة التي تهب من جهة الغرب يسيمها العراقيون شرقية، لأن كل أذى يصيبهم لابد أن يكون لإيران فيه دور.

الذاكرة المحلية تحل محل الذاكرة الجماعية التي تنحسر عن رقعتها التاريخية، وينحسر معها الوازع الفكري الجماعي تاركاً مساحات ضحلة في الذهن لا تتناسب مع حجم الرصيد الفكري الذي تستنزفه المشاريع العملاقة لكي تنطلق، مثلما تنحسر مياه المحيط العميقة تاركة شواطئ ضحلة وتاركة سؤالاً على لسان سكان الشواطئ: ما الحكمة من بناء سفن عملاقة لن يكتب لها الإبحار؟ وهو سؤال منطقي في ظاهره، وهو نفس السؤال الذي يطرحه سكان الشواطئ الفكرية فتحتجب صناعة المشاريع العملاقة.

انحسار الذاكرة الجماعية يلقي ظلالاً كثيفة على نمط ما يفترض أنها مشاريع إصلاح استراتيحية في حقبة أزمات ، لكنها في الواقع مشاريع تضميدية تتهيب من العناوين الكبيرة ، نظريتها الشكوى، ووسيلتها الإسعافات الأولية، ومنابرها المؤتمرات، تنتظر وقوع الحدث لتصفه ولا تصنعه.

بتكاثر المؤسسات "الشاطئية" واحتجاب المشاريع العملاقة يصبح المشروع الفردي خيار الأفكار الجذرية، الذي يتخذ في الغالب شكل مغادرة الحياة على قارب استشهاد؛ وهو ما يعني إتقان فن الموت في سبيل الله تعالى فقط وليس إتقان الحياة في سبيله أيضاً، الذي به يكتمل مفهوم "الدنيا مزرعة الآخرة" كما يريد مليكها عز وجل أن تكون.

كانت الذكرى الأربعين لنكسة 5 حزيران بعناوينها الإعلامية الباهتة، ونمطها الإعلامي الامتاعي، والاحتباس الفكري عند النخب، والانفصام عن القضايا المصيرية عند الشارع، كانت فعالية حملت معالم رقابة ذاتية صارمة يمارسها شعب على نفسه، ويبني بها ذاكرة جماعية اعتذارية وعقد ذنب ، أوَلسنا نطلق النار على أنفسنا بمقولات: نحن مصدر الإرهاب العالمي، ومصدر التشدد، ونحن من استعصت الديمقراطية على أفهامنا، وأننا من دون الأمم الذين يكبلنا ديننا وتراثنا فلا نعرف طريقاً للالتحاق بمجتمع العولمة؟ ألا تعيش قطاعات من مجتمعاتنا استسلاماً للقدر الأمريكي؟!.

ستشتد مراقبة الذات ومماشاة القدر الأمريكي مع حسم معارك فكرية داخل مؤسسات إعلامية عربية بين التيارات الإسلامية والعروبية من جهة والتيار الليبرالي من جهة ثانية الذي يمثل رغبة أمريكية - إسرائيلية في وضع حد لعقد من الزمان من إعلام نوعي أوجدته الصدفة لكنه أصبح منبراً لمن لا منبر له للإزعاج، ليس بالقصف من الأعلى ولكن بالقوة الناعمة من الداخل، وقد أخلى أطراف النزاع مواقعهم الأخرى وقدموا إلى المنازلة الإعلامية الفاصلة.

لو كان التاريخ ليعذر أمة اعتقدت بالقدر الأمريكي فستكون اليابان؛ الدولة التي سُويت بها الأرض وقبلت سلاماً مجحفاً ، وارتضت دستوراً كتبه الأمريكي المحتل، وخلعت عن إمبراطورها راغمة صفة الألوهية ، لكنها وهي الشريك الاقتصادي الأول لأمريكا رفضت الضغوط الأمريكية ، ومضت في قرار وطني لإقامة متحف يخلد ضحايا القصف الذري لمدنها، ورفضت لتسعة وأربعين عاماً إيقاف العناية المركزة عن آخر ضحايا الإشعاعات الذرية الذين رقدوا في مستشفياتها في حالة شلل تام ليكونوا متاحف حية تعرّف أجيال اليوم بما فعله الأمريكان بالآباء بالأمس.

وفي اليابان جمعيات تعنى بتراث هيروشيما وناكازاكي ، ولا تنقطع عن إنتاج برامج وثائقية وبحوث اجتماعية تشحن الذاكرة ، وتسلط الضوء على الأوبئة الاجتماعية التي يجلبها الجندي الأمريكي إلى المدينة والحي والأسرة اليابانية، وتؤمن هذه الجمعيات بذاكرة جماعية عالمية ضد حروب أمريكا على الشعوب ، وتمد جسور تعاون ثقافي مع الشعوب الضحية.

لم يكن العناد الحضاري والاقتصادي للمجتمع الياباني في وجه الوجود الأمريكي والسلعة الأمريكية مشروعاً رسمياً في أي مرحلة من مراحله، وإنما جهداً أهلياً كثيراً ما أوقع ويوقع الحكومة اليابانية في إحراجات أمام التزاماتها الدولية، لكنه في النهاية خدمة للطرفين الأهلي والحكومي.

وفي بريطانيا لا زالت صور وقصص الدمار التي أحدثها الألمان مادة تبثها البرامج التلفزيونية والمطبوعات على مدار العام دون كلل أو ملل، وهي جزء لا يتجزأ من المناهج المدرسية، ومثلها الأسباب التي قادت إلى الحرب من وجهة النظر الإنكليزية طبعاً، وتنظم المدارس زيارات يصغي فيها الصغار إلى روايات الكبار الذين عاينوا الحرب، وأخرى إلى مواقع مختارة تأثرت بالحرب، ويتفحص الأطفال شظايا قنابل حفظت لهذا الغرض، وتنتصب بجانب الموقع لافتة توجز الحدث بالأرقام ، فيلتحق النشء الجديد بالذاكرة الجماعية للمجتمع.

وكانت لندن قد أزاحت قبل أعوام قليلة فقط الستار عن نصب لـ (بومر هارس) قائد سلاح الجو البريطاني الذي أمر بحرق المدن الألمانية بالطائرات ، وردت برلين بعمل مماثل ، وحينما وافقت على حفر نفق القنال الإنكليزي الذي يربطها بأوربا، أشارت مسودة المشروع الهندسي إلى الحاجة إلى وسيلة لسد النفق وعزل الجزر البريطانية في حالة نشوب حرب! ..

إنعاش الذاكرة الجماعية، وتدوين التاريخ، وتنشئة الأجيال أمور لا تخضعها الأمم لحالة سلم أو حرب أو اقتصاد. نعم، ليس للذاكرة الجماعية في هذه الدول وزارة خاصة، لكن أمرها موكول إلى مؤسسات متخصصة تراقب أداءها على مدار اليوم والشهر والعام، ولها مجسات ترصد تقلبات الرأي العام بمناسبة وغير مناسبة، وتتعامل مع أي نشوز فكري بالطرق المناسبة.

الصورة أشبه ما تكون بعمل مراكز رصد الزلازل التي تثبت مجساتها على طول حزام النشاط الزلزالي ، وتسجل تحركاته لحظة بلحظة ، وتسقطها على رسوم بيانية، فلا تفاجئها أخبار وشوك حدوث الزلزال، فمهمتها استشعار وقوع الزلزال وليس الوقوف على أطلاله كما فعلت الفضائيات العربية بوقوفها على أطلال نكسة 5 حزيران 1967 عندما تطالب الحكومات (الغربية) هذه الشعوب بالسير إلى حرب العراق أو الصومال أو أفغانستان أو دارفور فإنها تخاطب فيهم مفاهيم مودعة في الذاكرة الجماعية، وما الخطاب الإذاعي إلا استدعاءً لتلك المعلومات، فتلبي الشعوب النداء ، وتنقلب المواقف في يوم وليلة.

أليست هذه الشعوب رغم كل ما تفعله مؤسسات إنعاش الذاكرة أقل يقظة من أسلافها؟ نعم، لكن الأمم إما متبوئة لقمم الرفاهية والدعة في فترات الاستقرار متراخية في مضمار البناء الفكري، أو متبوئة لقمم الفكر والنهضة في أوقات الضيق ، ومتراجعة عن رغد العيش.

ومع ذلك فإن هذه الأمم تحرص على قدر من التوازن بين الأمن الثقافي والأمني من جهة وبين هامش التسيب الاجتماعي الذي هو من تداعيات مدنيتها.

ولا تنسى هذه الأمم أن حقب السلام هي استراحة محارب ، وأن المحارب لا يسعه نسيان الماضي والشروع من الصفر.

يذكر في هذا السياق أن هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) لا زالت ترفض أن تتحول من مؤسسة رسمية محدودة الموارد المالية يمولها دافع الضرائب إلى شركة تجارية لسبب رئيسي: هو الاستمرار في ممارسة دور الرقيب على مفاهيم وخصائص المجتمع وتقديم مادة نوعية هجرتها المحطات التجارية ، في المقابل وضع إعلام البترودولار العربي نفسه في سلة واحدة هي سلة "البزنس"، الذي يقاس نجاحه بقدرته على جذب الإعلانات التجارية والتمويل الذاتي.

هذه هي أمم الشرق وأمم الغرب، فهل نحن استثناءً؟ إننا بارعون على نحو لا تضاهيه أمة غيرنا في إنتاج ذاكرة جماعية تلغي عامل الزمن، وتجعل من أبي بكر وعمر وهرون الرشيد رضي الله عنهم شخصيات معاصرة أقرب إلى إنسان القرن الواحد والعشرين من معاصريه، ومن معارك بدر وأحد والقادسية صوراً من أحداث الأمس القريب.

نحن بارعون في إدامة ذاكرة جماعية تاريخية موروثة، ما نحن عاجزون عنه هو كتابة فصل معاصر يضاف إلى االذاكرة الموروثة ، وينسجم مع سياقها لتبقى سلالتنا الفكرية والحضارية عصية على الخصم كما كانت أبداً.

الأزمات محطات مهمه في تاريخ الشعوب لا تفوّت، فيها تراجع القناعات، وفيها تصنع المعجزات، وفيها يعاد رسم الشخصية الجماعية للمجتمع وهي فرص نادرة الحدوث.

والعصيان الثقافي هو خط الدفاع الأخير في حياة الأمم، وهو في مذهب العولمة ـ أو لا زال إلى هذه اللحظة ـ من المكروهات التي يثاب تاركها ولا يعقاب فاعلها ، فلا يلومن غيور مدرك لواقع أمته إلا نفسه.

إذا كان تراجع طموحنا، وانكماش مشاريعنا مرده إلى ضمور ذاكرتنا الجماعية، وشعورنا بالبعد عن أقرب الأمثلة الواقعية الحية في مسار أمتنا، فإن إنعاش الذاكرة وإعادة ترتيب الذهن هو الطريق إلى الطموحات العالية والمشاريع الكبيرة، وكما يقول المثل الإنكليزي: "إذا أردت أن تكون عظيماً فليكن تفكيرك على طريقة العظماء" والعكس صحيح طبعاً.

mouad
mouad
╝◄ مــشـــــــرف ►╚
╝◄ مــشـــــــرف ►╚

ذكر
عدد الرسائل : 82
العمر : 32
تاريخ التسجيل : 22/07/2007

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى